السردية الموجهة- حرب الوعي الخفية ضد السعودية

المؤلف: عبداللطيف آل الشيخ08.27.2025
السردية الموجهة- حرب الوعي الخفية ضد السعودية

عندما أطلقت رئاسة أمن الدولة تحذيرها المتعلق بوجود "سردية موجهة ضد السعودية"، لم يكن ذلك مجرد تعبير إعلامي عابر وسطحي، بل كان إفصاحاً عن آلية بارعة وخفية تُستعمل ببراعة للتأثير في إدراك المجتمع السعودي، وتصدع قيمه الفكرية المتينة من العمق. فالسردية، بطبيعتها المتأصلة، ليست هجوماً مباشراً عنيفاً، بل عبارة عن منظومة قصصية متواصلة وطويلة الأمد يعاد ابتكارها باستمرار عبر قوالب متجددة باستمرار، ومضامين متراكمة ومتزايدة، تتغلغل بتأنٍّ إلى وعي المتلقي وتحكماته العقلية.

هذه السردية المغرضة الخبيثة لا تظهر في صورة عدو صريح مكشوف أو خصم معلن واضح، بل تتسلل بخبث ودهاء في هيئة حكاية آسرة ومشوقة، أو محتوى تهكمي ساخر، أو فيلم وثائقي زائف ومضلل، أو تقرير مدسوس ماكر يُبنى على أجزاء مبتورة ومنتقاة بعناية من الحقائق. تكمن خطورتها الكامنة في أنها لا تطالب الجمهور المستهدف بأن يصدقها على الفور ودون تفكير، بل تهدف في الأساس إلى إثارة الشكوك والظنون، وزرع الفوضى والتشويش، وإعادة تشكيل التصور الذهني عن الوطن بتاريخه العريق وشخصياته البارزة وحاضره المزدهر.

السردية الموجهة هي بمثابة رواية عظيمة ضخمة، يتم تشييدها وتدعيمها عبر سلسلة متتابعة من الرسائل التي تتراكم مع مرور الوقت وتتبلور تدريجياً، إلى أن تتحول إلى "قناعة" راسخة غير واعية في أذهان بعض الأفراد. ليست هجوماً سافراً ووقحاً، بل استنزافاً مطولاً للثقة الغالية. تبدأ بسؤال مريب ومشكوك فيه، وتعبر بتقرير متحيز ومنحاز، وتتردد على لسان مؤثر مغمور وغير معروف في بودكاست، ثم تنتهي بمشهد سينمائي مصقول أو إنتاج درامي مبهر يُقدم على أنه محايد وموضوعي، بينما هو في حقيقة الأمر يغذي سردية مضللة وخاطئة بشأن المجتمع أو قيمه النبيلة أو قيادته الرشيدة.

إن ما يحدث ليس مجرد "تشويه لصورة ذهنية"، بل إعادة تشكيل كاملة للوعي والإدراك. فالسردية ليست في جوهرها عدوانية، بل تستدرج العقول ببطء وهدوء إلى أن تتبنى رؤية مشوهة ومنحرفة دون أدنى مقاومة. إنها لا تصرخ بالكراهية والبغضاء، بل تهمس بالتحريف والتزييف. لذلك، فهي أشد خطورة وتأثيراً من الحملات الإعلامية المباشرة والعلنية، لأنها ترتدي ثياب "التحليل الموضوعي" و "الطرح المحايد"، بينما هي في الأساس محمولة على نية خبيثة وأجندة خارجية مغرضة.

السرديات الموجهة غالباً ما تستهدف القيم الجوهرية التي تشكل أساس الوحدة الوطنية المتماسكة، كفكرة الانتماء المتأصل، والاعتزاز بالهوية الفريدة، والثقة الراسخة في المؤسسات العريقة. إنها لا تنكر هذه القيم علانية وبصراحة، بل تفرغها بمهارة من مضمونها الحقيقي، وتعيد تقديمها من منظور خارجي، أو بلغة تثير الشكوك بشأن جدواها وأهميتها. تارة تقدم المواطن كضحية مستغلة، وتارة تصور الدولة كوحش كاسر، وتارة تشوه التحولات التنموية الإيجابية بوصفها "تغريباً دخيلاً"، أو تبسطها تهكماً بوصفها "مشروعاً تجميلياً سطحياً".

وما يزيد هذه السرديات خطورة وشراً، أنها تستثمر بشكل ذكي في أدوات الثقافة الشعبية العصرية والحديثة. لم تعد تعتمد فقط على المقال التقليدي أو التحليل السياسي الجاف، بل تغلغلت بعمق في الترفيه، والإعلانات التجارية، والميمات الساخرة، والأفلام السينمائية، والمواسم الاحتفالية، والتغريدات السريعة، والحوارات العفوية التي تُبث على نطاق واسع الانتشار وتُستهلك على أنها "محتوى اعتيادي" بريء ، بينما هي في الحقيقة رسائل موجهة بدقة تخاطب الوجدان مباشرة وتحرك المشاعر الخفية.

ولأن السردية ليست حدثاً عابراً أو لحظة خاطفة بل "مسار زمني" متصل ودائم، فإن مقاومتها الفعالة لا تكون بشعار مؤقت أو تغريدة تصحيحية عابرة، بل برواية مضادة أصيلة، تنبع من صميم الداخل، وتُروى بلسان أهل الوطن المخلصين لا بلسان الوكلاء الخارجيين. إن تحصين المجتمع بكل فئاته ضد هذه السرديات المضللة يتطلب وعياً متقدماً بآليات تشكيل الرأي العام، ونقداً ذكياً للمحتوى المتداول، وتدريباً مستمراً على كشف الخداع والتضليل في لغة الصورة والكلمة.

إن رئاسة أمن الدولة حين أشارت إلى هذا المفهوم الخطير، كانت تدق ناقوس الخطر بجدية، وتوجه الأنظار إلى معركة ناعمة حاسمة تُخاض في ميدان الوعي والإدراك، لا في ميدان السياسة أو الحرب العسكرية. ولهذا فإن الانتصار الحقيقي فيها لا يتحقق بالقمع أو بالصوت العالي، بل ببناء وعي جمعي حصين قادر على تمييز النية الخفية من النغمة الظاهرية، والحقيقة الناصعة من التحوير والتزييف.

إن السردية الموجهة ضد السعودية ليست مجرد اختبار للدولة ومؤسساتها، بل هي امتحان حقيقي لذكاء المجتمع وفطنته، ونضج أفراده ووعيهم، وفطنة نخبته المستنيرة، ومصداقية مؤسساته الإعلامية والثقافية الرائدة. وهي دعوة صريحة ومفتوحة لكل مواطن غيور أن يعيد التفكير ملياً في المحتوى الذي يتلقاه، لا بعين التسلية والترفيه فقط، بل بعين الوعي والتفكير الناقد العميق. فالوطن الغالي لا يحمى بالسلاح وحده، بل بالحكاية الصادقة التي نرويها نحن عن أنفسنا، قبل أن يرويها غيرنا عنا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة